الجمعة، 26 ديسمبر 2008

الهجرة ...وصناعة التاريخ







الهجرة
______________________________
______________________






تحيرت كثيرا ماذا اكتب فى موضوع الهجرة لا سيما وأن أى طفل مسلم يعرف قصة الهجرة بحذافيرها فهى أنشودة الأمة تتناقلها جيلاًَََََََََ من بعد جيل


غير أنى الآن لن أتحدث عن قصة الهجرة كذكرى دينية وإنما كنموذج إنسانى وقانون لحركة التاريخ وقوة دافعة يمكنها ان تحرك الامة من اقصاها إلى أقصاها
وكعادتى أفصل الامر تحت عدد من العناوين لتيسير الفكرة ..




الهجرة ..ومرونة المنهج
_______________


إن الهجرة درس جلى واضح الملامح فى مرونة المنهج حيث تعطى نموذجا حركيا ديناميكيا لمنهجية الدعوة لأى فكر معين وهو عليك أن تتمسك بالمباديء وتتنوع فى اساليب التحقيق

بمعنى ألا تتنازل عن الاصول فى فكرتك مهما تكن
لكن عليك بان تكون مرنا تستطيع ان تتكيف مع الواقع بمرونة وواقعية

تماما كما صنع محمد صلى الله عليه وسلم عندما غير من استراتيجية الدعوة مرتين
فبعد أن مكث يدعو ثلاثة عشر سنة ووجد أن الخسائر فى صفوف اتباعه صارت اكثر من المكاسب
أمر بهجرة نجاة
وهجرة النجاة التى اقصدها هى الهجرة إلى الحبشة والهدف الوحيد منها هو النجاة بصُلب الدعوة ومادتها المتمثلة فى المؤمنين الاقلاء
ثم غير من إستراتيجيته مرة اخرى
بهجرة الدولة
واقصد بها الهجرة الى المدينة وهذه المرة لم تكن للنجاة بالارواح وإنما لصناعة وتأسيس مجتمع جديد
دون التمسك بالإنطلاقة الأولى ألمتمثلة فى مكة بل بكل مرونة تم تغيير القاعدة

فكانت الهجرة وكان الإسلام




الهجرة وصناعة الإنسان
_________________


إعتمد النبى الأعظم فى نهجه الربانى على صناعة الإنسان بشكل مختلف ضارباً المثل ومقدما البرهان والدليل على أن الذات الانسانية هى بحق أعظم مخلوقات الله
وأشدها تعقيدا
حيث يمكن أن تحولها من النقيض إلى النقيض

وأن تستخرج منها النار والثلج فى نفس الوقت

فقام بصناعة الإنسان من جديد وإعادة صياغته بشكل أذهل العقول البشرية إلى يومنا
حيث حوَّل الانسان من الفردية إلى الجماعية بشكلها الكامل

وقد تحدث (أفلاطون) من قبل فى مشروعه الفلسفى (المدينة المثالية) حيث دعى إلى ان يصبح الفرد ولائه للمجتمع لا لذاته ولذلك دعى افلاطون إلى شيوعية النساء بحيث ينتهى الصراع من المجتمع وتصبح النساء مشاعا للجميع ينهل منه الرائح والغادى فينتهى الصراع عليهن
وكذلك دعى الى الالتزام التام لكل فرد بعمله بشكل حاد يخالف الطبيعة البشرية فكان نتيجة مشروعه الفشل التام ولم يرى مشروعه النور ولا لساعة من نهار

ولست هنا اقارن بين النبى الأعظم وأفلاطون وإنما أوضح الفارق فى الإستراتيجية المنهجية وكيفية التطبيق

وكيف حوَّل النبى الطبيعة الانسانية وقدم فكرةً بكراً
لم تعرف الانسانية لها مثيلا من قبل

وهى (الإخاء)


فآخى بين المهاجرين والانصار ليصنع إنسانا جديدا يجعل ولائه للمنهج لا للمجتمع ولا للفرد

حتى انه لما آخى بين عبد الرحمن ابن عوف وسعد ابن الربيع
قال سعد لعبد الرحمن لى إمرأتان انظر أيهما اعجب لك أطلقها وتزوجها ولى مال فلك شطره
هذه هى المدينة المثالية ولكنها من صنع محمد صلى الله عليه وسلم
وكان رد عبد الرحمن هو بارك الله لك فى أهلك ومالك ولكن دلنى على السوق
فالأنصار يقدمون أرفع درجات الإيثار والتضحية والمهاجرون يعلنون عن أسمى منارات العفة والرفعة




الهجرة ... الإنسان فوق الوطن
_____________________


ثم قدم النبى فى هجرته نموذج جديد لا زالت البشرية تحارب من أجل الوصول إليه بينما قدمه الرسول منذ خمسة عشر قرنا
عندما ألغى ولأول مرة فكرة العصبية والنعرة الوطنية والقومية وأعلى صرح الانسان فوق أساس الوطن

فقال (سلمان منا آل البيت .. وهو الفارسى غير العربى
وجعل صهيب الرومى فوق ابوسفيان القرشى
وبلال فوق الكعبة يؤذن وصناديد العرب تجلس تحت قدمه وهو فوق الكعبة
وعبد الله ابن مسعود المولى رجله تزن جبل احد عند الله
وابوذر الغفارى العربى الحر قال له النبى إنك أمرؤ فيك جاهلية لأنه عيَّر بلال بلون أمه )


ثم أرسى النبى الأساس فى قوله
( لوتأمر عليكم عبدحبشى كأن رأسه زبيبة فاسمعوا له وأطيعوا)

(ولا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى )

ولذلك تعجبت لما أندهش المسلمون عامة والعرب خاصة من تولى (باراك اوباما ) منبهرين بالنموذج الامريكى ونسوا أن أمتهم سبقت الوجود كله بهذا

ونسوا أن دولة المماليك ما هى الا دولة العبيد فالمماليك لم يكونوا سوى عبيداً صنعهم الإسلام
فقادوا الامة خمسة قرون
ومن قبلهم صلاح الدين الكردى
وألب ارسلان السلجوقى


رجال من العبيد والاقليات قادوا الامة بكل مرونة لأن الاسلام دين صنع الانسان من جديد



الهجرة ...وصناعة التاريخ
____________________
.
إن الهجرة لم تكن حركة جموع من الناس ينتقلون من موطن إلى موطن فهذا معروف من فجر التاريخ
ولكنها كانت حركة للتاريخ الانسانى وتغيير لوجه البشرية محى ملامحها القديمة وأعاد صياغتها فى ثوب جديد لا زالت ترفل فيه ليومنا هذا

إن التاريخ له قوانين ثابته فى إزدهار الأمم وإندثارها وهذه القوانين هى التى تصنع الامم وتهدمها
حتى جائت الهجرة فقامت هى بصناعة التاريخ لا العكس فقدمت قوانين جديدة

ظهرت جلية فى قوة داخلية للاسلام يشبه الانفجار الانشطارى ما أن يبدأ لا يمكن توقفه ويزداد بمتوالية هندسية تتضاعف كلما مر الوقت


وكانت تلك القوة متمثلة فى هجرة الأمة وتحركها بمرونة لانظير لها
فكانت خلافة ابو بكر للنبى نظام جديد لانتقال الامة من مرحلة النبوة إلى مرحلة الخلافة

ثم جائت ولاية عمر كنموذج جديد لنائب الحاكم ثم كان أمر عمر بوضع نظام جديد ثالث وهو نظام مجلس الحكم ممثلا فى الستة الذين اختارهم عمر ليتفقوا فيما بينهم على تحديد الخليفة بوجود ابو موسى الاشعرى قاضيا بينهم

ثم تحول رابع إلى النظام الإختيارى الشامل او الشورى او ما نسميه اليوم بالديمقراطية فى خلافة على
ثم نظام جديد يناسب الامة المترامية الأطراف فى الخلافة الاموية فالعباسية فالعثمانية

كما أن الإسلام حمل قوته الأكبر فى نهجه ممثلا فى القرءان العظيم
لا فى نظام حكمه فقط
على عكس كل الحضارات الإنسانية فإنه بمجرد أن تقضى على رأس الحكم فى دولة حتى تنهار الى الابد


إلا الإسلام وحده يتوقف عنده التاريخ بقوانينه لأن الاسلام هو صانع التاريخ
ودليل ذلك أن الإسلام تعرض لأبشع صور الإهلاك والتدمير
ومع ذلك ينهض عملاقا فى كل مرة
فمن رحم الحروب الصليبية المهلكة قامت الدولة الايوبية عملاقة ..!
ومن أغلاس الغزو التترى البشع نهضت الدولة المملوكية قوية فتية..!
وبعد ضياع الأندلس خرج العملاق العثمانى وأرعب أوروبا وادخل الاسلام الى شرقها بالكامل ولا تزال لليوم الدول الاسلامية قائمة فى الشرق الاوروبى ممثلا فى البوسنة والهرسك وكوسوفو والبانيا






الهجرة... والخلاص
_______________


ولذا فإن خلاص أمتنا اليوم لن يتسنى إلا بهجرتها من جديد
هجرة وثنيتها العصرية والعودة إلى نهجها الصافى والتزود بنبعها الرائق

وإنى لأرى نسائم النصر ماثلة فى هجرة شباب الأمة إلى الشيشان وأفغانستان والعراق يستنهضون الامة ويسحقون أعدائها كنموذج لا ينقطع من الهجرة المقدسة

فيا أمتى إن مجدك لم يحققه أباطرة ولا أكاسرة ولا ذوو ثراء فاحش
وإنما حققه شباب يربطون بطونهم من الجوع حملوا حلمهم وهاجروا به عبر الصحراء فزرعوا الوجود واحةً وجنوا من الشوك العنب ومن النار السلسبيل

صنعوا التاريخ ولم يصنعهم

فلتهاجرى ياأمتى من جديد إلى الله ورسوله



بقلم
_____________
نور الدين محمود